فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الطبري:

وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفيين: {سَيُكْتَبُ مَا قَالُوا وَقَتْلُهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} بالياء من سيكتب وبضمها، ورفع القتل، على مذهب ما لم يسمّ فاعله، اعتبارًا بقراءة يذكر أنها من قراءة عبد الله في قوله: {ونقول ذوقوا}، يذكر أنها في قراءة عبد الله: ويُقَالُ.
فأغفل قارئ ذلك وجه الصواب فيما قصد إليه من تأويل القراءة التي تُنسب إلى عبد الله، وخالف الحجة من قرأة الإسلام. وذلك أن الذي ينبغي لمن قرأ: {سيكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء} على وجه ما لم يسم فاعله، أن يقرأ: ويقال، لأن قوله: ونقول عطف على قوله: {سنكتب}. فالصواب من القراءة أن يوفق بينهما في المعنى بأن يقرآ جميعًا على مذهب ما لم يسم فاعله، أو على مذهب ما يسمى فاعله. فأما أن يقرأ أحدهما على مذهب ما لم يسم فاعله، والآخر على وجه ما قد سُمِّي فاعله، من غير معنى ألجأه على ذلك، فاختيار خارج عن الفصيح من كلام العرب.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا: {سَنَكْتُب} بالنون {وقَتْلَهُمْ} بالنصب، لقوله: {وَنَقُول}، ولو كانت القراءة في {سيكتب} بالياء وضمها، لقيل: ويقال، على ما قد بيّنا. اهـ.

.قال الفخر:

هذا وعيد على ذلك القول وهو يحتمل وجوها:
أحدها: أن يكون المراد من كتبه عليهم إثبات ذلك عليهم وأن لا يلغى ولا يطرح، وذلك لأن الناس إذا أرادوا إثبات الشيء على وجه لا يزول ولا ينسى ولا يتغير كتبوه، والله تعالى جعل الكتبة مجازا عن إثبات حكم ذلك عليهم.
الثاني: سنكتب ما قالوا في الكتب التي تكتب فيها أعمالهم ليقرؤا ذلك في جرائد أعمالهم يوم القيامة، والثالث: عندي فيه احتمال آخر، وهو أن المراد: سنكتب عنهم هذا الجهل في القرآن حتى يعلم الخلق إلى يوم القيامة شدة تعنت هؤلاء وجهلهم وجهدهم في الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بكل ما قدروا عليه. اهـ.

.قال الألوسي:

{سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ} أي سنكتبه في صحائف الكتبة، فالإسناد مجازي والكتابة حقيقة، أو سنحفظه في علمنا ولا نهمله فالإسناد حقيقة والكتابة مجاز، والسين للتأكيد أي لن يفوتنا أبدًا تدوينه وإثباته لكونه في غاية العظم والهول، كيف لا وهو كفر بالله تعالى سواء كان عن اعتقاد أو استهزاء بالقرآن وهو الظاهر. اهـ.

.قال الفخر:

الفائدة في ضم أنهم قتلوا الأنبياء إلى أنهم وصفوا الله تعالى بالفقر، هي بيان أن جهل هؤلاء ليس مخصوصًا بهذا الوقت، بل هم منذ كانوا، مصرون على الجهالات والحماقات. اهـ.
قال الفخر:
في إضافة قتل الأنبياء إلى هؤلاء وجهان:
أحدهما: سنكتب ما قال هؤلاء ونكتب ما فعله أسلافهم فنجازي الفريقين بما هو أهله، كقوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} أي قتلها أسلافكم {وَإِذْ نجيناكم مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49] {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} [البقرة: 50] والفاعل لهذه الأشياء هو أسلافهم، والمعنى أنه سيحفظ على الفريقين معًا أقوالهم وأفعالهم.
والوجه الثاني: سنكتب على هؤلاء ما قالوا بأنفسهم، ونكتب عليهم رضاهم بقتل آبائهم الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.
وعن الشعبي أن رجلا ذكر عنده عثمان رضي الله عنه وحسن قتله، فقال الشعبي: صرت شريكا في دمه، ثم قرأ الشعبي {قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بالبينات وبالذى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} [آل عمران: 183] فنسب لهؤلاء قتلهم وكان بينهما قريب من سبعمائة سنة. اهـ.

.قال القرطبي:

جعل الرضا بالقتل قتْلا؛ رضي الله عنه.
قلت: وهذه مسألة عُظْمَى، حيث يكون الرضا بالمعصية معصيةً.
وقد روى أبو داود عن العُرْس بن عميرة الكندي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهِدَها فكرِهها وقال مرة فأنكرها كمن غاب عنها ومن غاب عنها فَرِضِيها كان كمن شهِدَها» وهذا نص. اهـ.

.قال الفخر:

المراد أنه تعالى ينتقم من هذا القائل بأن يقول له ذق عذاب الحريق، كما أذقت المسلمين الغصص، والحريق هو المحرق كالأليم بمعنى المؤلم. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} أي وننتقم منهم بواسطة هذا القول الذي لا يقال إلا وقد وجد العذاب.
والحريق بمعنى المحرق وإضافة العذاب إليه من الإضافة البيانية أي العذاب الذي هو المحرق لأن المعذب هو الله تعالى لا الحريق، أو الإفاضة للسبب لتنزيله منزلة الفاعل كما قاله بعض المحققين والذوق كما قال الراغب وجود الطعم في الفم؛ وأصله فيما يقل تناوله دون ما يكثر فإنه يقال له: أكل، ثم اتسع فيه فاستعمل لإدراك سائر المحسوسات والحالات، وذكره هنا كما قال ناصر الدين لأن العذاب مرتب على قولهم الناشئ عن البخل والتهالك على المال وغالب حاجة الإنسان إليه لتحصيل المطاعم ومعظم بخله للخوف من فقدانه، ولذلك كثر ذكر الأكل مع المال، ولك أن تقول: إن اليهود لما قالوا ما قالوا وقتلوا من قتلوا فقد أذاقوا المسلمين وأتباع الأنبياء غصصًا وشبوا في أفئدتهم نار الغيرة والأسف وأحرقوا قلوبهم بلهب الإيذاء والكرب فعوضوا هذا العذاب الشديد، وقيل: لهم ذوقوا عذاب الحريق كما أذقتم أولياء الله تعالى في الدنيا ما يكرهون.
والقائل لهم ذلك كما قال الضحاك خزنة جهنم، فالإسناد حينئذ مجازي، وفي هذه الآية مبالغات في الوعيد حيث ذكر فيها العذاب والحريق والذوق المنبئ عن اليأس فقد قال الزجاج: ذق كلمة تقال لمن أيس عن العفو أي ذق ما أنت فيه فلست بمتخلص منه والمؤذن بأن ما هم فيه من العذاب والهوان يعقبه ما هو أشد منه وأدهى، والقول للتشفي المنبئ عن كمال الغيظ والغضب وفيما قبلها ما لا يخفى أيضا من المبالغات، وقرأ حمزة {سيكتب} بالياء والبناء للمفعول {وَقَتْلِهِمُ} بالرفع، ويقول بصيغة الغيبة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {ونقول ذوقوا عذاب الحريق} عُطف أثرُ الكتب عَلى الكتب أي سيجازون عن ذلك بدون صفح، {ونقول ذوقوا} وهْو أمر الله بأن يَدخلوا النار.
والذوق حقيقته إدراك الطُّعوم، واستعمل هنا مجازًا مرسلًا في الإحساس بالعذاب فعلاقته الإطلاق، ونكتته أنّ الذوق في العرف يستتبع تكرّر ذلك الإحساس لأنّ الذوق يتبعه الأكل، وبهذا الاعتبار يصحّ أن يكون ذوقوا استعارة.
وقد شاع في كلام العرب إطلاق الذوق على الإحساس بالخير أو بالشرّ، وورد في القرآن كثيرًا. اهـ.

.قال الفخر:

يحتمل أن يقال له هذا القول عند الموت أو عند الحشر أو عند قراءة الكتاب ويحتمل أن يكون هذا كناية عن حصول الوعيد، وإن لم يكن هناك قول. اهـ.

.قال ابن عطية:

{ذوقوا عذاب الحريق} وخلطت الآية الآباء مع الأبناء في الضمائر، إذ الآباء هم الذين طوقوا لأبنائهم الكفر وإذ الأبناء راضون بأفعال الآباء متبعون لهم، والذوق مع العذاب مستعار، عبارة عن المباشرة، إذ الذوق من أبلغ أنواعها وحاسته مميزة جدًا. اهـ.

.قال أبو حيان:

ولما كان الصادر منهم قولًا وفعلًا ناسب أن يكون الجزاء قولًا وفعلًا، فتضمن القول والفعل قوله تعالى: {ونقول ذوقوا عذاب الحريق}.
وفي الجمع بين القول والفعل أعظم انتقام، ويقال للمنتقم منه: أحس وذق.
وقال أبو سفيان لحمزة رضي الله عنه لما طعنه وحشي: ذق عقق، واستعير لمباشرة العذاب الذوق، لأن الذوق من أبلغ أنواع المباشرة، وحاستها متميزة جدًا.
والحريق: المحرق فعيل بمعنى مفعل، كأليم بمعنى مؤلم.
وقيل: الحريق طبقة من طباق جهنم.
وقيل: الحريق الملتهب من النار، والنار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة، والملتهبة أشدها.
والظاهر أنَّ هذا القول يكون عند دخولهم جهنم.
وقيل: قد يكون عند الحساب، أو عند الموت. اهـ.

.قال الفخر:

لقائل أن يقول: إنهم أوردوا سؤالا وهو أن من يطلب المال من غيره كان فقيرا محتاجا، فلو طلب الله المال من عبيده لكان فقيرا وذلك محال، فوجب أن يقال: أنه لم يطلب المال من عبيده، وذلك يقدح في كون محمد عليه الصلاة والسلام صادقا في ادعاء النبوة فهو هو شبهة القوم فأين الجواب عنها؟ وكيف يحسن ذكر الوعيد على ذكرها قبل ذكر الجواب عنها؟
فنقول: إذا فرعنا على قول أصحابنا من أهل السنة والجماعة قلنا: يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، فلا يبعد أن يأمر الله تعالى عبيده ببذل الأموال مع كونه تعالى أغنى الأغنياء.
وإن فرعنا على قول المعتزلة في أنه تعالى يراعي المصالح لم يبعد أن يكون في هذا التكليف أنواع من المصالح العائدة إلى العباد: منها: أن إنفاق المال يوجب زوال حب المال عن القلب، وذلك من أعظم المنافع، فإنه إذا مات فلو بقي في قلبه حب المال مع أنه ترك المال لكان ذلك سببا لتألم روحه بتلك المفارقة، ومنها: أن يتوسل بذلك الإنفاق إلى الثواب المخلد المؤبد، ومنها: أن بسبب الإنفاق يصير القلب فارغا عن حب ما سوى الله، وبقدر ما يزول عن القلب حب غير الله فإنه يقوى في حب الله، وذلك رأس السعادات، وكل هذه الوجوه قد ذكرها الله في القرآن وبينها مرارًا وأطوارا، كما قال: {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا} [الكهف: 46] وقال: {والآخرة خَيْرٌ وأبقى} [الأعلى: 17] وقال: {ورضوان مّنَ الله أَكْبَرُ} [التوبة: 72] وقال: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] فلما تقدم ذكر هذه الوجوه على الاستقصاء كان إيراد هذه الشبهة بعد تقدم هذه البينات محض التعنت، فلهذا اقتصر الله تعالى عند ذكرها على مجرد الوعيد. اهـ.
قال الفخر:
إنه تعالى لما ذكر الوعيد الشديد ذكر سببه فقال: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي هذا العذاب المحرق جزاء فعلكم حيث وصفتم الله وأقدمتم على قتل الأنبياء، فيكون هذا العقاب عدلا لا جورا. اهـ.

.قال القرطبي:

وخصّ الأيْدِي بالذكر ليدلّ على تولّى الفعل ومباشرته؛ إذ قد يُضاف الفعل إلى الإنسان بمعنى أنه أمر به؛ كقوله: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} [القصص: 4] وأصل {أَيْدِيكُمْ} أيديكم فحذفت الضمة لثقلها. والله أعلم. اهـ.

.قال الفخر:

قال الجبائي: الآية تدل على أن فعل العقاب بهم كأن يكون ظلما بتقدير أن لا يقع منهم تلك الذنوب، وفيه بطلان قول المجبرة: إن الله يعذب الأطفال بغير جرم، ويجوز أن يعذب البالغين بغير ذنب، ويدل على كون العبد فاعلا، وإلا لكان الظلم حاصلا.
والجواب: أن ما ذكرتم معارض بمسألة الداعي ومسألة العلم على ما شرحناه مرارًا وأطوارا. اهـ.
قال الفخر:
لقائل أن يقول: {وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] يفيد نفي كونه ظلاما، ونفي الصفة يوهم بقاء الأصل، فهذا يقتضي ثبوت أصل الظلم.
أجاب القاضي عنه بأن العذاب الذي توعد بأن يفعله بهم لو كان ظلما لكان عظيما، فنفاه على حد عظمه لو كان ثابتا، وهذا يؤكد ما ذكرنا أن إيصال العقاب إليهم يكون ظلما لو لم يكونوا مذنبين. اهـ.

.قال الثعالبي:

قيل: المراد هنا نفْيُ القليلِ والكثيرِ مِنَ الظُّلْم؛ كقول طَرَفَةَ: [الطويل]
وَلَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاَعِ مَخَافَةً ** وَلَكِنْ متى يَسْتَرْفِدِ القَوْمُ أَرْفِدِ

ولا يريدُ: أنه قدْ يحلُّ التلاعَ قليلًا.
وزاد أبو البقاءِ وجْهًا آخر، وهو أن يكون على النَّسَبِ، أي: لا ينسب سبحانه إلى ظُلْمٍ، فيكون من باب بَزَّاز وعَطَّار. انتهى، قلتُ: وهذا القولُ أحْسَنُ ما قيل هنا، فمعنى وما ربُّكَ بظَلاَّم، أي: بذي ظُلْم. اهـ.

.قال أبو حيان:

وجاء لفظ ظلام الموضوع للتكثير، وهذا تكثير بسبب المتعلق.
وذهب بعضهم إلى أن فعالًا قد يجيء لا يراد به الكثرة، كقول طرفة:
ولست بحلال التلاع مخافة ** ولكن متى يسترقد القوم أرفد

لا يريد أنه قد يحل التلاع قليلًا، لأن عجز البيت يدفعه، فدلّ على نفي البخل في كل حال، وتمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة، وقيل: إذا نفى الظلم الكثير اتبع القليل ضرورة، لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم، فإذا ترك الكثير مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضرر كان للظلم القليل المنفعة أترك.
وقال القاضي: العذاب الذي توعد أن يفعله بهم: لو كان ظالمًا لكان عظيمًا، فنفاه على جد عظمه لو كان ثابتًا والعبيد جمع عبد، كالكليب.
وقد جاء اسم الجمع على هذا الوزن نحو الضيفن وغيره من جمع التكسير، جواز الأخبار عنه إخبار الواحد كأسماء الجموع، وناسب لفظ هذا الجمع دون لفظ العباد، لمناسبة الفواصل التي قبله مما جاءت على هذا الوزن، كما ناسب ذلك في سورة فصلت، وكما ناسب لفظ العباد في سورة غافر ما قبله وما بعده.
قال ابن عطية: وجمع عبدًا في هذه الآية على عبيد لأنه مكان تشقيق وتنجية من ظلم انتهى كلامه.
ولا تظهر لي هذه العلة التي ذكرها في هذا الجمع.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): فلم عطف قوله: {وأن الله ليس بظلام للعبيد}، {على ما قدمت أيديكم} وكيف جعل كونه غير ظلام للعبيد شريكًا لاجتراحهم السيئات في استحقاقهم العذاب؟ (قلت): معنى كونه غير ظلام للعبيد: أنه عادل عليهم، ومن العدل أن يعاقب المسيء منهم ويثب المحسن انتهى.
وفيه رائحة الاعتزال. اهـ.